اتهم ناشطون من السويداء قسد بأنها وراء دعوة إلى الفيدرالية، أُطلقتْ من تنظيم لا يملك حيثية شعبية في المحافظة، وأتت دعوته خلافاً لما يردده المتظاهرون يومياً في الساحات. الزعيم الروحي حكمت الهجري، عشية المظاهرة الكبرى التي تداعى إليها المنتفضون يوم الجمعة، أبدى أيضاً في حديث أمام وفد زائر استهجانه طرح الفيدرالية مؤكّداً على “الطابع الوطني” لمطالب المتظاهرين.
هناك اتفاق بين غالبية نشطاء الحراك في السويداء على أن إطلاق دعوة إلى الفيدرالية يخدم الأسد في هذه الظروف، إذ يُظهر انتفاضة السويداء كمشروع انفصالي، ويجرّدها من أحقية النطق باسم معاناة السوريين عموماً. خاصة أن أبواق الأسد لم تقصّر منذ الساعات الأولى لانطلاق المظاهرات في ترويج تهمة النزعة الانفصالية، وصولاً إلى ربطها بإسرائيل عبر الطائفة الدرزية هناك، وإعادة سيناريو 2011 باتهام المتظاهرين بقبض 20 دولاراً والمتظاهرات 35 دولاراً!
توجيه الاتهام إلى قسد يكتسب مصداقية من تفاصيل الطرح نفسه، إذ حملَ الدعوة إلى إدارة ذاتية شبيهة جداً بالإدارة الذاتية الكردية، ومن المعلوم أن الأخيرة نشطت في أوروبا خلال السنوات الأخيرة لاستقطاب ناشطين سوريين عرب، وعُقد العديد من اللقاءات في مدن أوروبية، والبعض منها برعاية وتمويل من مراكز غربية. هذا الانفتاح على المعارضين العرب يُسجَّل للإدارة الذاتية، لكن بقدر ما يبتعد عن ظاهرة الاستزلام التي لا تخدم على المدى البعيد لا المعارضين الأكراد ولا العرب. وهي ظاهرة لصيقة بما نصفه بالتبشير السياسي الذي تمارسه الإدارة في موضوع الفيدرالية، بوصفها الحل السحري لمشاكل جميع “المكونات” السورية.
من وجهة نظر الداعين إلى الفيدرالية، السويداء جاهزة لهذا الحل مع وجود غالبية درزية أثبتت تماسكها خلال ظروف الثورة الاستثنائية أكثر مما فعلت الجماعات السورية الأخرى، ويسهّل تواجدها في حيز جغرافي واضح إنشاءَ كانتون خاص بالدروز. وهو كله، إذا صحّ على هذا النحو، يبقى عديم الانتباه إلى العوامل الأخرى، لأن همّ واهتمام أصحابه منصبّان على الجانب الهوياتي بلا التفات يميناً أو يساراً.
هذا النزوع الهوياتي صار بمثابة أيديولوجيا قد لا تبقى بعيدةً بأدواتها عن الشموليات التوتاليتارية، وبموجبه يجري تهميش عناصر أخرى لا تقل أهمية، بل قد تزيد لناحية الاستمرار والديمومة. من ذلك ما يقدّمه لنا مثال السويداء نفسه بالمقارنة مع مثال الإدارة الذاتية الكردية، فالسويداء لا تمسك بعصب سوريا المائي، وليس فيها آبار للنفط، كما هو حال مناطق الإدارة الذاتية. باختصار، العوامل الاقتصادية الخاصة بالسويداء تجعل من مطلب الفيدرالية غير موجود في قائمة أولويات المنتفضين، والتمسك بالوطن السوري له نصيب من الواقعية، ولو أن فكرة الوطن تهتكت وانتُهكت على معظم مساحة سوريا.
وألا تكون الفيدرالية في أولويات السويداء فهذا لا يجعلها متشبثة بنظام استبدادي مركزي كالذي تنتفض عليه، وإنما يجعلها تولي لقضية التغيير الديموقراطي تركيزاً أشدّ من التفكير في النظام السياسي التالي على التغيير. وفق هذه الأولويات، لا يقدّم نموذج الإدارة الذاتية إجابات على متطلبات السويداء، ورفضه من قبل أهاليها لا ينطوي على عصبية عروبية مقابلة للعصبية الكردية، ولا ينطوي أيضاً على مطامع هيمنة عروبية على شاكلة البعث الذي تواصل السويداء اجتثاثه بطريقتها الهادئة غير الانتقامية.
وتشاء المصادفات (؟) أن تندلع المعركة بين قسد والعشائر العربية في دير الزور، بالتزامن مع انتفاضة السويداء. ومما كشفته المعركة أن أهالي دير الزور يشعرون بالغبن من قسد والإدارة الذاتية، ويعانون من عدم تمثيلهم التمثيل المستحق في إدارة شؤونهم، وقد اعترف مظلوم عبدي نفسه في لقاء مع وكالة رويترز بأخطاء وتقصير الإدارة وأقرّ بوجود خلل تمثيلي. لكن من المعلوم أن الأمر يتعدى التقصير والأخطاء إلى ما هو ممنهج، فالإدارة الذاتية التي يهيمن عليها الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني تقدّم نموذجاً تشاركياً على الصعيد الشكلي فقط، وثمة كثر يشبّهونه بنموذج الجبهة الوطنية التقدمية التي يقودها حزب البعث، وهناك إحساس حاد بالتهميش لدى المكونات الأخرى غير الكردية، فوق الشكوى الكردية من استئثار الحزب المذكور بمفاصل السلطة وتهميش خصومه الأكراد.
أي أن الإدارة الذاتية، المتهمة بمحاولة استغلال انتفاضة السويداء لترويج نموذجها، تقدّم في الوقت نفسه مثالاً ساخناً على فشلها في دير الزور، فوق الأمثلة المستدامة على ضعف المحتوى الديموقراطي لتجربتها. واتهام الإدارة سلطة الأسد بتحريك عشائر دير الزور ضدها لا يغيّر من واقع التهميش الذي قد تستغله أية جهة، سواء كان الأسد أو إيران أو روسيا أو تركيا. نعني أن المشكلة هي في نموذج الإدارة الذاتية، ونلخّصها في جانبين؛ الأول منهما هو ضعف المضمون الديموقراطي للتجربة عموماً، ووجود سياسات تمييزية تشكو منها المكونات غير الكردية، أما الجانب الثاني فهو عدم تقديم تصوّر واقعي لفيدرالية المستقبل بما أن الإدارة لا تطرح الانفصال عن سوريا أو تقسيمها.
في الواقع، تبدو أشبه بالنكتة أقوال أنصار الإدارة الذاتية إذ تنص على أن مستقبل سوريا هو في تعميم تجربة الإدارة، ومن المستحسن “بدلاً من ذلك” تقديم مشروع إلى السوريين يحدد الجغرافيا التي تطالب بها الإدارة الذاتية في سوريا المستقبل، ويلحظ بشكل عميق موضوع توزيع “الثروة”، لأن ما لا يُعلن في هذا الجانب شديد الأهمية، وهناك الكثير من الاقتتال مدفوع أصلاً بالسيطرة على الأراضي الزراعية والمياه وأخيراً النفط. نشير مثلاً إلى أن أولى محاولات الفتنة بين الأكراد والعرب كانت وزارة النفط سبّاقة فيها، عندما ألغت في مستهل عام 2012 عقد “حراسة” آبار نفط مع وجيه عشائري ومنحته لكردي من منظومة حزب العمال، والمسألة ليست في أحقية أي طرف منهما بل في الصراع على المكاسب.
ومن المستحسن أيضاً أن تكفّ منظومة الإدارة الذاتية عن طرح نموذجها للتعميم، لا لعثراته فقط، وإنما لاختلاف مطالب ومتطلبات باقي السوريين، وليس صحيحاً على الإطلاق أن اللامركزية إما أن تكون متساوية أو لا تكون. اللامركزية المتساوية “المتناظرة” هي جزء فحسب من تنويعات فيها تجارب دولية عديدة من اللامركزية المتفاوتة، وبموجب الأخيرة قد يحصل إقليم أو كانتون على ميزات مختلفة عما يريده الآخرون.
رُفعت في الأسبوع الأخير لافتات عديدة موجَّهة من متظاهري السويداء إلى الإدارة الذاتية، في المنحى الذي يرفض استثمار الأخيرة في انتفاضتهم. وإذا افترضنا حسن النية فإن الإدارة تطمح إلى إثبات صواب نموذجها، لكن إثباته “إذا كان صالحاً حقاً” لا يمرّ من السويداء؛ إنه يمرّ أولاً من دير الزور والرقة والقامشلي، سواء بالترتيب المذكور أو بدءاً من القامشلي.
عمر قدور – المدن