منذ أن اندلعت المواجهات العسكرية بين القبائل العربية وقوات قسد في أواخر شهر آب الماضي في دير الزور وأريافها، كان ثمة سؤال يحضر بقوّة في أذهان معظم المتابعين والمهتمين بالشأن السوري، ولكن في الوقت ذاته كان ثمة إصرار لدى قوات العشائر وحاضنتها بتجاهل هذا السؤال أو الإجابة عنه بطريقة ملتوية وغير مقنعة، والآن بعد أن هدأت وتيرة المعارك وباتت الأمور تتجه نحو مضي قوات قسد نحو الحسم العسكري عاد السؤال ذاته ليُطرح من جديد: ما هو المشروع السياسي الذي تتبنّاه القبائل العربية التي انتفضت في مواجهة قسد، وما هي الأهداف المحددة لهذا المشروع؟ وهل تتبنى القبائل العربية في دير الزور فكرة الاستيلاء على السلطة من أيدي قسد وتحييد أو إبعاد أي دور لحزب العمال الكردستاني ومشتقاته في سوريا، مع الإبقاء على الشراكة مع قوات سوريا الديمقراطية كشريك ندّي وليس كصاحب قرار بالمطلق؟ أم أنها تريد انتزاع جميع مقاليد الأمور من قسد وطردها من المنطقة باعتبارها تحمل مشروعاً دخيلاً لا صلة له بثورة السوريين مثلاً؟ أم أن انتفاضة العشائر لا تعدو كونها ردّة فعل مباشرة على جميع ممارسات قسد وفسادها الإداري ونزعتها الإقصائية في الحكم، أضف إلى ذلك سوء الواقع المعاشي الذي يعاني منه سكان المنطقة الذين يدركون بعمق أن مناطقهم هي من أغنى المناطق السورية اقتصادياً ولكنهم محرومون من خيراتها بسبب تحكّم سلطة قسد الدخيلة وهيمنتها المطلقة على مفاصل المال والاقتصاد؟ وبالتالي فإن ما تهدف إليه انتفاضة العشائر هو مطالبة التحالف الدولي بإعادة النظر في الشراكة القائمة بين الطرفين والضغط على قسد لتقبل بصياغة جديدة لمفهوم الشراكة يأخذ بعين الاعتبار أحقية المكون العربي بصناعة القرار وحقه في الإدارة وممارسة السلطة على قدم المساواة مع الحاكم الكردي.
أسئلة كثيرة كانت تُطرح لكن دون إجابات واضحة، ليس لعسر في القدرة على الجواب، بل لما يوجبه الجواب من توارد أسئلة أخرى كانت ربما محرجةً للعديد من المتحدثين باسم حراك القبائل، بل ربما نظروا إلى تلك الأسئلة أثناء احتدام المعارك بعين الريبة والشك، ولا يمكن تجاهل السؤال الأكثر إلحاحاً على الدوام، هل ثمة موقف موحد لدى عشائر دير الزور سواء من سلطة قسد أم من نظام الأسد أم من الثورة؟
ربما كان بمقدور القائمين على حراك القبائل أن يعلنوا بوضوح عن رغبتهم في استعادة زمام السلطة من أيدي قسد وممارسة أحقيتهم في إدارة مناطقهم باعتبارهم أهل الأرض والديار، وليس من المنطقي بكل المقاييس أن تُدار أمورهم من جانب قوى من خارج المنطقة، فضلاً عن عدم تماهي سكان المنطقة مع المشروع الذي تحمله السلطة الوافدة من الخارج، وهذا حق مشروع لأهالي دير الزور وسواهم من تلك المناطق، ولكن في الوقت ذاته فإن السعي لتجسيد هذا الحق المشروع يوجب على الساعين حيازة المشروع البديل والناضج ليكون البديل الأمثل عن السلطة الراهنة، ولا أعني بالمشروع الجانب السياسي فقط، بل ربما الأهم أيضاً جانب التنظيم والإدارة (القدرة على حوكمة المنطقة)، وهذا ما لم يكن موجوداً في واقع الحال لدى حراك القبائل.
بالطبع غياب المشروع (البديل) لا يعود إلى نقص في الكفاءات البشرية العلمية ولا إلى ندرة الخبرات المهنية لدى سكان دير الزور أو سواها من المدن، بل ربما السبب هو غياب الأطر التنظيمية الفاعلة، سواء أكانت تلك الأطر سياسية أو مهنية أو منظمات مجتمع مدني، ولعل غياب تلك الأطر لا ينحصر في دير الزور وحدها فحسب، بل في سائر المدن السورية، سواء الواقعة منها تحت سلطة نظام الأسد، أو الواقعة تحت نفوذ سلطات الأمر الواقع الأخرى.
ولعل غياب الإطار أو المظلة السياسية لحراك القبائل العسكري كان له الدور الأكبر الذي أتاح لأطراف عديدة أن تستثمر فيما يجري، وكلٌّ يحاول الاصطياد في الماء العكر، ولعل في طليعة تلك الأطراف نظام الأسد الذي بدأت أبواقه الإعلامية شديدة المزايدة مدّعيةً أن نظام الأسد هو من يدعم القبائل لطرد قسد من المنطقة، وبالطبع لن تعدم سلطة دمشق القدرة على تحريك أكثر من طرف عشائري ممّن يوالي النظام لتسويق موقف الأسد وتمرير ادعائه بدعم العشائر وحيازة ولائها له.
أمّا أن يكون سقف الحراك هو انتزاع حقوق وإحقاق مطالب سواء من جهة المشاركة في الإدارة أو ذات صلة بجانب معيشي أو اقتصادي أو ما إلى ذلك، فهذا مما هو جدّ مشروع ولا يمكن تجاهل أهميته، ولكن أيضاً في هذه الحالة تكون استراتيجية المواجهة مغايرة لما حدث، وأعني وجوب أن تكون الكلفة البشرية أقل من جهة أن الدم السوري لا ينبغي استسهال جريانه على الرغم من أنه ما يزال يجري من اثنتي عشرة سنة.
في ضوء موازين القوى العسكرية الراهنة فإن المآلات التي أفضت إليها حرب العشائر في دير الزور لم تكن مستغربة، ففي استمرار التحالف الدولي على موقفه المنكفئ، فإن سلطات قسد تدرك محدودية السلاح والذخيرة التي تمتلكها العشائر، في حين أن قوات قسد تضع يدها على مخزون من العتاد المتطور كمّاً ونوعاً، وبهذا استطاعت احتواء (هبّة العشائر) في الأيام الثلاثة الأولى، ومن ثم استطاعت استعادة السيطرة على معظم المناطق التي انتزعها مقاتلو العشائر في البداية، إلى أنْ أجهزت على بلدة (ذيبان) معقل الشيخ إبراهيم الهفل الذي غاب عن الأنظار واكتفى بتسجيل صوتي يحض فيه أبناء العشائر على الاستمرار في القتال، لكن يبدو أن مثل هذا التسجيل بدا في لحظة ما كصيحة في العراء. وفي الوقت ذاته لا يجد قائد قوات سوريا الديمقراطية (مظلوم عبدي) أي حرج في الدعوة إلى الحوار والاستعداد التام للاستجابة لمطالب القبائل العربية، في حين أن تصريحاته في الأيام الأولى للمعارك كانت أشدّ ضراوة، فهل اطمأن مظلوم عبدي بزوال الخطر العسكري عن أمن كيانه وهو الأهم، ومن ثم لا بأس في الاستمرار باتباع سياسة الاحتواء والالتفاف والمداورة كما كانت الأمور سابقاً؟
حسن النيفي – تلفزيون سوريا